24‏/03‏/2012

حي السبعينيات ... الجزء الثالث





حي السبعينيات

***
الجزءالثالث



دخل نصار غرفة المحقق كمال بعد ان استدعاه وأجلسه على الكرسي امامه ، ثم بادره بالكلام .
- اعتذر عن تأخيرك كل هذه المده فأنا اعلم انك حضرت من السفر ويجب ان تستريح ، ولكن كان لدي بعض الأمور العالقة ووجب علي اتمامها ،
- لا بأس يا حضرة المحقق ، لكن هل هناك خطب ما ،
- لا تقلق ، كنت اود الحديث معك عن اخيك رائد هل تعلم عنه اية اخبار .
- نعم لقد تحدثنا في بداية هذا الشهر وكان ذا معنويات مرتفعة جداً ، فقد قرر ان يعود للوطن ،
فسألتُه : مع زوجتك واولادك ؟
كان حزينا حين قال لا لوحدي ، زوجتي رفضت المجيء لكنه كان لا يزال لديه امل بإقناعها والعودة عن قرارها ، عفوا سيدي هل هناك شيء ، اقلقتني ..
- حسنٌ وماذا عن والدك السيد توفيق ، قرأت في البلاغ انك تطلب المساعدة في البحث عنه .
- نعم لقد خرج والدي منذ اسبوع تقريبا ولم يعد ، اتصلت بي مدبرةُ المنزلِ واخبرتني بذلك ،ولم استطع ان ابقى بعيداً عن الوطن ، وانا لا اعلم عن والدي شيء .
- هل اتصلت بأخيك رائد ؟
- نعم اتصلت كما واتصلت به مدبرة المنزل أيضا لكنه لم يجبها ، وكانت زوجته دائما تقول انه غير موجود .
سكت المفتش كمال قليلاً... وأطرق برأسِه إلى الأرض .. بدت عليه علامات الحيرة .. كيف سيبدأ بالحديث عن هذا الموضوع ؟ ...
لعل التزلج على حمم بركان قد انفجر تواًّ حد الإحترق ، أقل سوءاً من اتخاذ قرار بإعلام شخص ما بخبر مصيريٍّ سيء
رفع المحقق كمال رأسه ببطئ قائلاً.. يا سيد رائد والله لا أدري كيف أدخلُ بالموضوع .... انت تعلم ان العربي في بلاد الغرب سيبقى عربيا في نظرهم ... ومهما بلغ من مناصب ...
تجهم وجه نصار وتسمرت عيناه على المفتش كمال بعبوس شديد ، وبدأ قلبُه يسرع في دقاته وكأنه في سباق مراثوني ،
اكمل المفتشُ كمال حديثه قائلاً ... بعثت لنا المباحث الفيدراليه أن أخاك من ضمنِ المشتبهِ بهم في تفجيرٍ لإحدى الفنادق الأمريكية الكبرى ، والتي ذهب ضحيتُها العديدُ من الأشخاصِ الأبرياء ، ومن مختلف الجنسياتِ والديانات ... وهم يبحثون عنه لأنه اختفى منذ تلكَ الحادِثه .. وقد طلَبو مِنا ان نتعاونَ معهم في إيجادِه إن كان داخلَ البلاد ، او دخلَ إليها عبر طريقةٍ غيرِ شرعيه ،

ومن منطلقِ حرصنا على أمانةِ وسلامةِ مواطنينا ، وأمنِ وسلامة بلادِنا ، حاولنا البحثَ عنهُ والتدقيقَ في كلِّ من دخلَ إلى البلادِ عبر كل الطرق ، البرية والبحرية والجوية ولم نعثر على اية خيوطٍ له ، ولذلك أتيتُ مع زميلي المملازمِ أديب لسؤالِ السيدِ توفيقٍ عنه لكنه يكن موجوداً،

****

تسمر نصار على الكرسي في مكانه مشدوهاً ... دخلَ في حالةٍ من الهذيان ..عقلٌ فارغٌ تماماً... غيرُ مصدقٍ ما يحدُث ...محدقاً بالمحقق ... دون أن يرمِش ...
تياراتٌ من الهواءِ آتية من النافذةِ أدمَت مُقلتيه ... تمنى الموتَ في هذهِ اللَّحظه .. لكن " دائما هناك خيطٌ دقيق يفصلُ بين الحياةِ والموت نتشبث به ولا نستطيع اجتيازه بملئِ إرادتِنا "... تَشردَق بالحرف ... والماءُ لم يعُد يُجدي نفعاً لإسعافِه ...
بالرُّغم من وجهِ المحققِ المتجهمِ والجدي .. ومن عدمِ معرفتِه المسبقةِ بِه.. إلا أن نصَّار  كان يُمني نفسَه  أن تكون هذهِ الأخبارُ مداعبة من المحقق .. او حتى كميرا خفيه ...
بدأ نصار يتمتم ...
ما اسرعها سنواتِ العُمر .. تمضي بِومضة دون أن نُدرِك أنهَّا مضَت ... وفي السابقِ كُنا نراها بطيئة ونتسائل متى سوف نكبر ؟،
- كان لدى كل منا انا ورائد مزمار ، أحضرهُما والدِي من إحدى أسفارِه ، فقد كانَت كلُّ أشيائِنا مُتشابِهة ... وكُنا ندورُ به حولَ البيتِ نضحكُ ملأَ حناجِرنا ، ونعزفُ عليهما ضجيجاً يغري العصافيرَ والحمائِم بالتحليقِ ، والخروج من أعشاشِها كي تتراقصَ معناَ في فضائِها الواسع ، وكانت ام سعيد تبتسمُ وهي تنادِي علينا قائلةً : لقد ازعجتم الأرضَ فهربتِ الطيور ...
ولا نأبه لما تقول ونحن من يسعى للتحليق ...
في ذلِك الشتاءِ حُبِسنا خمسةَ أيامٍ لم تظهر فيها الشمسُ أبداً كي تداعِبنا ، وكانتِ السماءُ تَحتضنُها الغيومُ السوداء الماطره ،ونحن نجلسُ بالقربِ من النافذة طوال اليومِ ننتظرُ انقشاعها.. وابي يجلس على كرسيهِ  .. وفي فمهِ الغليون.. قارئاً للجريدة متيماً فيها فهو يضحكُ أحياناً ويبكي أحيانا ... ويغضب احياناً ... وإن ناظرنا ابتسم ... وفجأةً جاء ابو ربيعٍ كي يبلغ ابي عن وجودِ زوجةِ عمي في بيتِنا وكانت معها مرام ابنتُها ...
قطب والدي حاجبيه ثم اتجه لاستقبالِها، وأنا ورائد ركضنا خلفه نتلصصُ من خلفِ الباب ، كانت معها حقيبةُ سفرٍ كبيره .. في بادئ الأمر كنا  نتراهنُ أنَّها تحوِي الكثيرَ من الألعابِ والحلوى ..
انحنت زوجةُ عمي على ابنتِها مرام ثم همست لها ...فاتجَهت مرام نحو البابِ تركضُ بفرح.. وهرعناَ أنا ورائد مبتعيدينَ عن البابِ خوفَ ان يلمحنا أبي ..
خرجت مرام من الباب تنظرُ إلينا وهي تبتسم ... ثم بسرعة مدهشة قالت الا تريدونَ اللعب ؟ ( كانت مفعمةً بالحياة ، يشع من عينيها بريقُ يجعلُ القلبَ يبتسم ) .. نظر كل منا إلى الآخر .. لا جدوى من استراقِ النظرِ والتنصت فقد كان الصوت خافتا ..ومرام معنا .. عدنا الى الغرفةِ كي نلعب ..لقد كنت اكبر من مرام بسنة ورائد اكبر مني بسنتين ..لعبنا كثيرا .. لكننا لم نستطع مقاومة فضولنا في معرفة ماذا يوجد في الحقيبه ، فسألنا مرام عن ماهيتِه .. ضحكت وقالت لعبتي وملابسي .. فسألها رائد : هل ستسكنينَ عندنا ؟ ..
قالت :لا ، أمي قالت لي أنني سأقضي الإجازة عندكم ،لأنكم اولاد عمي وسوف أعود إليها ...
لم نهتم كثيراً لما سوف يحدث ، فالأطفال همُّهم الوحيد عند وجودِ طفلٍ جديد في البيت ، هو اظهارُ كل ألعابِهم ، وكل مواهبِهم التي لاتنتهي ، لإستِثمارِها في اللعب ، ومن أهمِّ هذه المواهبِ تعريفُ الضيفِ الطفلِ بكيفية إتلافِ شيءٍ ثمينٍ ومخبئٍ في البيت...
لم تمكُث أم مرام بزيارتها لبيتنا طويلا ، حتى أنَّها لم تشرب قهوتها وتركتها لا تزالُ ساخنة ...وفي أثناءِ خروجِها نادت على مرام واحتضنتها بقوة ثم قبلتها
وهمست بأذنِها : كوني ابنةً مطيعه ، ثمَّ خرجت والدموع تغسلُ وجهها الحزين ، لكن مرام لم تبكِ ، فقد كانت تتوقع أنَّها ستكونُ إجازة مسلية ، لا سيما أنها كانت تحبُّ أبي كثيراً ،
أمسك والدي بيدِها وأجلسَها على حِجرِه ، ثم قال لها : يا نحلتي الصغيرة ، منذُ أن وُلدتِ وأنتِ فردٌ من هذهِ العائِلة  ولكنك كنت بعيدة قليلاً ، أما ليوم فقدِ إجتمعَ شملُنا وهاهي الشمسُ تشاركُنا بفرحٍ فتبددُ بأشعتِها الغيوم ،
 توقَّف المطرُ وخرجنا كالمساجينِ الذينَ فُكَّ أسرُهم ، نركض متدافعين الى الحديقة ... ذهبت مرام الى ابي كي تجلس معه على الأرجوحة ، وأنا ورائد نتراقص بخفةِ بينوكيو ، ونعزفُ للعصافيرِ سمفونياتِنا المفضلةِ من مزاميرنا  ،
وصلنا إلى شجرةِ الكينا .. لقد بنت عليها الحمامةُ البريةُ عشاً ، وصوت زقزقة صغارها الجائعة تشاركُنا عزفنا ، وضعت مزماري على الأرض .. وتسلقتُ الشجرة .. ورائد يناديني بأعلا صوته ، (دع الصغار يكبرون بسلام ) ،
كنت أريدُ رؤيةَ عُشِّها ، لكنني ترنحت وكدت أقع على الأرض ،ركض الي اخي رائد بلا وعيٍ كي يلتقِطني ، وداس على مزماري فكسره نصفين ،
كلانا سمِع صوت كسرَ المزمار ، لكن رائد أسندني إلى الشجرةِ و ركضَ الى المزمار ، فأخذ مزمارهُ وقال مبتسماً : اوه لقد كسرت مزمارِي ..
قلت : هو مزماري ..
قـال :  لا لقد ركضت إليك وألقيتُ مزماري بجوارِ مزمارك فتدحرج أمامي ولم أنتبه فكسرتُه ،
لقد كان رائد حنونا جدا ..مأثاراً ،،،
يا سيدي المحقِّق .. رائد ليسَ لهُ علاقةٌ بما حدث .. رائد كان يبتعد عن بيوتِ النملِ حتى لا يدوسَها...انا متأكدٌ أن هُناك لبسٌ في هذا الموضوع .. أخي بريءٌ برائةَ الذئب من دم يوسف  ..
ابتسمَ المحققُ كمال وفي عينيهِ دمعةُ مشفقةً على هذا الشاب ،  ثم قال : يجب ان نتعاونَ كي نثبِت هذا ،
أطرقَ نصار بِرأسِه إلى الأرض ..
أبي أين أنت ؟ ، أحتاجُك ،أحتاجُ توجيهاتِك ، أينَ أنت ؟، هذا فوق ما أستطيع احتماله ..
يدٌ قويةٌ امتدت لكتفِ نصارِ تهُزُها و تربتُ علَيها ... يدٌ ليسَت بغريبةٍ أبداً ، لطالما كانت تربِتُ على كتِفِه ...لطالَما ضمَّتهُ واحتضنَتهُ ...
زادت ضرباتُ قلبِ نصار حتى أن جدرانَ غرفة المحقق صارت ترددُ صداها ،،
يا إلهي هل أحلُم ، هي تحملُ في البُنصُر خاتما فضياً مزيناً بحجر الزمرد ،، متردد في الإلتفات ،،خائف ،، انه هو ،،
هذا الخاتم الذي كان لعمي الشهيد وقد أهداه له والدي ،، رائحةُ التبغ ،، صوت انفاسِه ،،

أبي ،، اين كنت يا أبي ،،،


يتبع ...




الصور من رسومات الفنان Fabian Perez



21‏/03‏/2012

ماذا سأهديك يا أمي



ماذا سأهديك يا أمي




 
 في عينيها جنة عدن ... وعلى شفتيها ينبع نهر مِزاجُه من الكافور والتسنيم ... وفي جدائلها الذهبية التي بدأ الشيب يغزوها يفوح عطر الفردوس ... وعلى خديها ينبت الشقيق ... وفي قلبها ابواب الرحمه .
 أمي .. أمي .. أمي ...
 كم اثقلنا عليك بهمومنا التي لا تنتهي .. ودموعنا التي لا تنضب .. وآهاتنا التي لا يسمعها سواك..
 فنحن منذ ان كنا صغارا كل يوم لنا حكاية ..
 في الطفولة كانت حكايانا مع اطفال الجيران ، ولعبِ الشوارع ، فنتسابق الى حضنك الدافئ نبكي ركبتاً مضمختاً بالدماء ، سحلناها على الرصيف ونحن نتصدى للكره ... او ونحن نركض خلف بعضنا .. او في احدى تشبيحات الشوارع
 وفي المدرسه كنا مع حكايا المدرسين والمدراء والزملاء ، والمشاغبات التي ليس لها عد ولا حصر ، لكننا هنا كنا نحاول ان نُظهر لك أننا كبرنا ونريد ان نزيح عن كاهلك تعبنا ورعونتنا .. فنكون امامك كالملائكه المجتهدين ... وبكل بساطة الطفولة نقول لك ( أنا حُر)
 لكنك حين الذهاب للسؤال عنا تتفاجئين ... ربما في اقصى الحالات هروب من المدرسه .. او مشاجرات في الفصل .. او اهمال في الواجبات الملقات على كاهلنا .. فتدمع عيناك ويُعتصرُ قلبك ... ويزيد الحمل عليك اكثر اكثر ... ولكنك لا تشتكين .. وعندما نحاسب !! .. بكل وقاحة نعلل تقصيرنا بكره الأستاذ لنا ..
 وبكل طاقات الحنان يبدأ العقاب ... لكنك كثيرا يا امي ما تشفقين .. وفي الخفاء تبتسمين .
 ونكبرُ ليكبر معنا جحودُنا لك .. فنصيرَ شباباً في معتركات الحياة نقاتل .. ونَحسبُ أننا ننضال كي نكوِّن لأنفُسنا زاوية في هذه الحياة نأوي إليها .. ونسيناكي يا أمي .. ونسينا أنك من أسس لنا قصرا في تلك الزاويه ، وعلمتنا كيف نصب الإسمنت عليها لتصير بناءاً شامخا ،
 ولا زلنا جاحدين لك .. متسمرين خلف اجهزة التلفاز او الحاسوب .. نعايدك بحروف .. او رسائل قصيرة في اذيال المحطات .. وانت بجوارنا تجلسين ... لكننا لا نتفوه بها لك .. وان تفوهنا .. او صارت المعجزة فأحضرنا لك الهدية !! ... نبقى أعواماً نسائِلُك عنها ( أين هديتي التي اهديتك إياها في تلك السنة في عيدك؟ ) .. وان اصاب الهدية شيء .. يا ويلتاه ماذا ستسمعين ..
 نسينا انك اهديتنا الحياة حين سمحت لنا ان نكون بذرة في احشائك .. ثم جنينا ...
 وها نحن في هذا الربيع العربي نهديك ورودا مخضبة بالأحمر الذي ينتشر في الأزقة والطرقات .. فسامحينا يا أمي.. لم نجد وردة بيضاء ..
 حتى الياسمين يا امي صارت له معجزه واكتساه اللون الأحمر .. و طقم الصلاة لم يعد ابيضاُ .. و علبة الموسيقى لم تعد تغني لحنك الذي تحبين ...
 احترت ماذا سأهديكي يا أمي في هذا اليوم ... فكل ايامك اعياد .. هكذا يجب ان نقول .. ورفعت رأسي الى السماء .. فلمعت في ذهني ومضة فكره .. وبسرعة خطفتها كي لا يسبقني اليها غيري فيهديها لك قبلي ...
 سأهديك غيمة يا حبيبتي .. فالغيم لم يستطع الربيع ان يلامسه .. سأصعد سلم السماء .. وأربطُ الغيمة بحبل كي لاتنفلت .. وسأوعز لكل رفقتي ان يفعلو مثلي ...
 أحبك يا أمي ...

الصورة لــ
Pino Daeni

باسم
 Angel From Above


 

19‏/03‏/2012

حي السبعينيات الجزء الثاني






حي السبعينيات


الجزء الثاني





مشت مرام خلف ابي ربيع بخطاً متأرجحة ، فتتقدم خطوة وتتأخر خطوة ، وشيء ما كان يعيدها للخلف ،
تتلفت حولها اتراه تغير شيء هنا ؟ ...تلك الأرجوجةُ التي كنت أجلس عليها بجانب عمي حين كنت صغيره ، حتى يغلبني النعاسُ فأنام على فخِذه ، ويبقى هو صامتاً محدقاً في السماءِ الصافيةِ كقلبِه ،
ببرائةِ الطفولةِ سألتُه عن سببِ تحديقِة في السَّماء ، فنظر إليَّ وهو يبتسمُ بسعةِ الكونِ حناناً ، ثم قَّبل جبيني وقال :إنُظري يا صغيرتي الى تلك الغيمات هناك ...  هناك تجلسُ حبيبتي تُناظرُني ، وكلما رأتني متضايقاً تعباً أرسلت الي بعضاً من أنفاسِ عطرِها الذي يلُفُّني ، فيأخذُني كي أجالِسها قليلاً حتى يذهبَ عني الضيقُ والتعب ، وأغفو على صدرِها ،
رقصَ قلبي فرِحاً حينها ، ينشُدُ الأمَل ، ثم قُلت : وهل أبي أيضاً هناك ؟
ضحِك بتلك الَقهقهةِ التي لطالَما عشقتُها، فقد كانَت تُدغدغني كي أنفِجر ضاحة،
ثم قال: طبعاً ايتها النحلةُ الصغيرة ،
فقلتُ أين؟ ، كانت عينايَ محدقتانِ في السماء ،أُحاولُ مدَّ رقَبتي القصيرةِ أكثر ،تبحثُ عن ابي الذي غادرنِي شهيداً وأنا ابنةُ الربيع الخامِسِ من عمُري ، لم أرى شيئاً في بادئِ الأمر ، وتكرَّر سُؤالِي الشغوفِ له ... أين ؟ أين ؟ ... ثم انفجرتُ باكيةً أضربُه على صدرِه وأنا أقولُ لِماذا ترى خالتي وأنا لا أرى أبي ، ألا يريدُ رؤيتي ؟
كانت المرةُ الأولى التي أرى فيها عمي مغرورقة عيناهُ بالدمع ، وهو يحتضنُنُي  ، ثمَّ صمتَ قليلاً ومسَحَ دمعي المُتساقطِ وقال لي : ثقي بي وانظري الى تلك الغيمة - وأشارَ بشاهدهِ الأيمنِ إلى أكبِر غيمةٍ في السماء - إنه هناك فوقَ تلك البيضاءِ الكبيرة ، فأباكٍ شهيدٌ ولهُ اكبرُ غيمة ، لا تُزيحِي عينَيكِ عنهَا يا أجملَ نحلة ،
هدَأت أنفاسي وبدأتُ أطيلُ النظَر إليها ، نعم إن أبي هناك يلوِّح لي ... إنني أراه ،
لم أستطِع الحِراك ، بقيتُ أنظُرُ إلى أبي الذي أقبلَ إليَّ يحملني ، ويطوف بي بأرضٍ خضراءَ تكسُوها شقائقُ النُّعمانِ بلونِها الأحمرِ الجميل ، ويحد أطرافها أشجارُ الزيتونِ والنخيل ، نمت في إحدى زواياها شجرة سروٍ عاليه ، بنت الحمائم البريةُ فوقها أعشاشها وسكنت البلابل فروعها وطاف الهدهد حولها، ثم جلسنا تحتَ مِظلة ياسمين أبيضَ نقي مد من بعض فروعه ارجوحة ، وقال لي أبي: هذه الأرضُ لنا أنا وانتِ، سنأتي إليها كلما التقينا ،
في ذلك اليوم لعبتُ مع والدي كثيراً جداً ، ثم استيقظتُ احتضنُ عمي واقولُ له لعبتُ مع أبي يا عمي ...
ومنذُ ذلك اليومِ صارت جلسةُ الأرجوحةٍ إحدى طقوسِنا اليوميةِ أنا وعمي ،

كم أنا إبنةٌ جاحدة ، ليَتني لم أسافر مع نصار ، ليتني بقيتُ بجوارِك أجففُ قدميكَ كُلما توضأت ، كما كُنت تغسل وجهي ويداي مع نصار وتجففهما كُلَّما عُدنَا إلى المنِزلِ والطينُ يخضِّبنا من اللعبِ في الحديقة.
كم انا يتيمةٌ يا عمِّي الآن في غيابِك، فبعدَ استشهادِ والدي وزواجِ والدتي من رجلٍ رفضَ وجودي في محيطِ عائلتِه ، كُنتَ ليَ الأبَ والأُم .
 
طفولتنا هي الشيءُ الوحيد الذي يبقى متشبثاً في أعماقِنا، لا نستطيع انتزاعها حتى لو كانت مؤلمه
 
وضعت أمُّ سعيدٍ يدَها على كتفِ مرام مقاطعةً تأملاتِ افكارِها وشُرودِها  ، ثم احتَضَنتها بقوة ،
نظرت  إليها مرام ، راسمةً على وجهِها ابتسامةً متعبة صامتة، ثم دخلتا المنزل ، باتجاه حُجرتها التي كانت تنام فيها  ...
 
كلُّ ما في المنزلِ يناديه ( عُد ) ، عُكازُه الذي كان يتكئُ عليه ، الأريكة التي كان يجلسُ عليها ، تلفازُه ، مكتبته الزاخرة بأجمل وأندر الكتب والروايات ،والتي لطالما كان يفتخر بها ، جدران المنزل ، علبةُ السيجار وفُنجانُ قهوتِه ،
تجوَّلَت قليلا في أرجاءِ المنزل ، دخَلت غرفةَ السيد توفيق وهي تُحاولُ جمع كل أنفاسه من الغرفة في رئتيها ، فَتحت خِزانَة ملابسه ...
 - آه ( القُمباز ) مكويٌ ومعلق ، مهيءٌ كي يصير بين يدي عمي في اي لحظة يطلبه ، هذا الزي الذي لطالما قام عمي بارتدائه بفخرٍ في المناسباتِ الرسميةِ التي ذهب إليها كالأعراس والأعياد .. تحسَّسَّتُه بيَديها ، لا زالت تفوح منه رائحةُ عطرِه ،
وجهت عينيها نحو نافذة الغرفه ووقفت امامها ، كانت مطلة على بيت الجيران الذي يقع خلف المنزل ... قَفزَت أمامَ عينيها تِلك الطفلةُ التي كانت تركضُ الى ستارةِ هذه النافذةِ صباحاً فُتزيحها بفرحِ الطفولة ، كي تداعبَ أشعةُ االشمسِ وجههُ وتغريه بالنهوضِ من الفراش وبابتسامتِها المشرقةِ تقبلُ خده ....
هيا يا عمي قُم  ففنجانُ قهوتِك جاهز، حضَّرتهُ لك أم سعيد ، وكي نشربَ معك كأسَ الحليبِ الطازج
 - في كل صباح كانت تحمص ام سعيد حبوب البن الخضراء وتطحنها كي يشربها السيد توفيق جديده ،وتشتري الحليب الطازج الذي يحضره ابو رسمي بعد ان يحلب اغنامه في الفجر .
وكعادته ( السيد توفيق ) يقوم من الفراش متجها الى النافذة ، فيلقي تحية الصباحِ على الكون ، ويشهقُ شهيقًا طويلًا فيعبئُ فقاعاتِ رئتيهِ من نسماتِ الصباحٍ  العليل ، ثم يرفعُ يديِه فيتمتم ببعضِ الأدعيةِ الصباحيةِ وهي تردد خلفه ( آمين  (
في حياتِنا كثيرةٌ هي العاداتُ المكتسبة ، أو التي نبتدعُها نحنُ بأنفُسنا فنعتاد ارتيادَها دائما، لكنَّ اجملها على الإطلاق ما يكونُ لهُ مذاقٌ ورائحةٌ ممتعة ومميزة كمذاقِ البن الطازج  
توجهت الى غرفتها بخطواتٍ مُتثاقِلة وهي لا تكادُ ترى الطريق ، وألقت بجسدِها بهدوءٍ على السرير ، ثم بدأت بتفقدِ غرفتِها التي مرت سنة منذ آخرِ مرةٍ رأتها ، لكنَّها اليوم تختلف عن السنواتِ السابقة ، هناك شيء ما ينقُصُها ، بالرغم من انها كما هي منذ عشرين عاماً ، لايزالُ طلاؤُها كما هو، وحتى أثاثها ،  بل هي افضل مما كانت عليه ،
تحسست جنينَها الذي يقطُن في أحشائِها ، لقد اعتنى بها عمي جيداً ، فقد كان يقول دائماً غرفةُ نصار ومرام لأولادهما ،
أغمضت عينيها بعد أن تسللت دموعها المُحتَبسةُ في مقلتيها لتستقرَّ على الوسادة ،

دخل نصار غرفةَ المحققِ كمال بعد أن استدعاهُ وأجلسه على الكرسيِّ أمامه، ثم بادره بالكلام  .
-  اعتذر عن تأخيرِكَ كل هذه المُده فأنا أعلمُ أنك حضرتَ من السفرِ ويجبُ أن تستريح ، ولكن كان لدي بعض الأمور العالقة ووجب علي اتمامها ...

..... يتبع

*************
الصورة لـــ
 Michael & Inessa Garmash



بإسم :
 Hugs for Minnie

الثريا .... 




17‏/03‏/2012

حينَ كُنَّا في تِلكَ الزَّاوِيَة

حينَ كُنَّا في تِلكَ الزَّاوِيَة

  حين كنتُ وكانَ وكُنا ...
 حين قيلَ لن يعود ..
 حين ألَثمَ الصمتُ أفواهَنا ..
 لا نستطيعُ الإجابه ..
 لن يُصدِّقونا ..
 ليسُو في قُلوبِنا ..
 لم يعلمو يوماً بخفقاتِنا ..
 لم يرَو صِدق عيوننا ..
 لم يسمَعو همساتِنا ..
 لم يستجيرو الله ويقسمو عليه أن يبَرَّنا ...
 لم يُواكبو تطوراتِ نفوسِنا ..
 يروننا نضحكُ فيقولون يئِسنا ..
 يجزمونَ بالمستحيلِ ونَسُو مُنزِل يَس ...
 في تِلك الزاويةِ كُنا وحدَنا ..
 فقط ، وروحاً تسكُنُنا و لا تسكُنُنا ...
 أطيافُ الماضي .. أحلامُ المستقبل .. ووعودُ الحاضِر ... 
 ومتى ؟ ... سؤالٌ لطالَما راودَنا عن أحلامِنا ...
 في تِلك الزاويةِ خبأْنا صندوقاً عاجياً تحتَ وسائِدِنا ..
 أودعناهُ ماساتِ دموعِنا ...
 وصخوراً منَ الياقوتِ كانت تجثُمُ على صدورِنا ..
 وبعضٌ من عنبٍ محلى ، ببعض الآهاتِ التي كادَت تقتُلُنا ..
 كل ما فيه ثمينٌ لأنهُ يخصُّنا وحدَنا ..
 يا كلَّ حكايا العاشقينَ تجَسَّدت في حناجِرِنا ..
 ويا كل غبارِ السنينِ .. كان رَفيقنا ...
 وحين صارَ الوعدُ حقا ...
 وجاء النصرُ ولو بعدَ حين ..
 وأكلنا ثمارَ صبرِنا ..
 بعد حُسنِ الظنِّ ... وتضرعاتِ السنينِ العِجاف ..
 التصقَ الإسمُ بالإسم ..
 قالو .. إيييييييييييه إن لكلِّ شيءٍ أوان ...
 أينَ كُنتُم من هذا الكلام ؟ ... بابتِسامْ :)
 وحفرنا لصندوقِنا العاجيِّ في تِلكَ الزاويه ..
 وتحت إحدى قِطَعِ الرُّخام .. قبراً ..
 واستَودَعناهُ أرضَ الزاوية ... وانطلَقْنا .. 
 لكي نُكمِل ما بدأنا ...

في 170312

13‏/03‏/2012

رواية حي السبعينيات الجزء الأول



حي السبعينيات


الجزء الأول


اعتاد عمال النظافة ان يجمعو النفايات في الساعة الرابعة فجراً من ذلك الحي ، والذي سمي بحي السبعينيات نسبة الى سنوات بنائه
(سبعينيات القرن العشرين ) ، يتميز بهدوئه التام ، عدا عن صوت نباح كلب او مواء قطة ، و بأرستقراطية ساكنيه الذين يعيشون في بيوت مبنية وسط ارض تحتلها الأشجار وبعضا من الأزهار التي تزين حواف المنازل ،
السيد توفيق ربان سفينة متقاعد ، هادئ كالنهر و بحر من الغموض، وأرض خضراء سهله ترى ما فيها على بعد الف ميل ،هو قطعة مخملية قد بطنت بالحرير ، مسالم بريء ومقاتل مغوار ، لديه من الحنان ما يفيض على كل الأزمان ، ونقاء كالماء الزلال ، ولديه من العذوبة ما يذيب الصخور الصلدة ، وكأنه خرج من احد روايات باولو كويلو أو املي برونتي
تراه دائماً معتمرا قبعته الايطاليه الصنع ، والتي اهدتها له ( أَبرِيانا ) بعد ان ضرب عاملاً في المرفأ كان يتحرش بها وهي تهم بالصعود على متن سفينته التي اسماها على اسم زوجته المتوفاه منذ ثلاثين عاماً ( سكر ) ،
وبيده اليسرى يمسك سيجاراً من النوع الكوبي ، بسيط اللباس ، وراق الهندام ، لا يعمد الى التباهي .. ويعمد اليه التباهي ...
ان ضحك سُمِعت قهقهاته من خلف جدران بيته السميكة... فإن مر في تلك اللحظة عابر ابتسم ، وكأنه دُغدِغ بتلك القهقهات ...
وهو احدى أثرياء ذلك الحي ، يعلو سقف بيته كرميد اخضر اللون كان قد طلب من المهندس وضعه ، فهو يعكس على روحه بعضا من هواء البحار التي كان يجوبها ، ولديه ولدان (رائد وهو الإبن الأكبر ) و ( نصار وهو الأصغر ) ، انجبتهما ( سكر ) زوجته التي توفيت وهي في المخاض حين انجبت  سعد الإبن الثالث ، والذي توفي فور ولادته ،



في هذه الجمعة بدأت الحياة في ذلك الحي تتغير ، فلم يعد الهدوء يسكن أروقة الطرقات... ولم يعد بيت السيد توفيق كما كان عليه في السابق ...
كانت الساعة الثانية عشرة ظهرا حين طرق رجلان باب البيت ، احدهما يلبس بدلة كحلية اللون ، يبدو على وجهه ملامح الهدوء والسكينة ، وتعلو جبهته علامات الذكاء والحنكة ، له شارب نحيل نوعا ما ، ويمشي بخطا ثابته
أما الآخر فكان يلبس بدلةً عسكرية  ،خشنٌ و قاسي الملامح ، يعقد حاجبيه كالرقم سبعه ، وتبدو عليه علامات الريبه ، يحاول تفقد كل ما هو حوله حتى الزهور ، وكأنه كلب بوليسي ذو انف شديد الحساسيه ، شارباه عريضان ، وحين يمشي يضرب الأرض بحذائه فكأنه يحدث زلزالاً ،
فتح لهما السائق ابو ربيع باب المنزل الحديدي الكبير ، فبادراه بالسؤال : هل السيد توفيق موجود ؟ .. قال ابو ربيع لا ، لقد خرج من المنزل منذ البارحة ولم يعد .... بدأت ركبتا ابي ربيع تطرقان ببعضهما ، وارتعدت اوصالة ، فقد كان يكره ان يمر من جانب شرطي فكيف والشرطي هو من اتى اليه !
تقدم الرجل ذي الزي المدني الى داخل المنزل والتفت الى ابي ربيع ثم قال مبتسماً... انا المحقق كمال من المباحث وهذا زميلي الملازم أديب ،
أومأ له ابو ربيع بالترحيب وقال تفضل يا سيدي ، كيف استطيع ان اخدمك ،
سأله  المفتش كمال : من في البيت ؟، بدأت علامات الخوف والإرتباك تظهر على ابي ربيع اكثر فأكثر ، وقال لا يوجد سوى ام سعيد  مدبرة المنزل والخادمة الصغيرةُ ريحانه ...
تقدم المفتش كمال من ابي ربيع وبكل أدب استأذنه برؤية ام سعيد ، لم يبدي ابي ربيع اي اعتراض ، بل على العكس ، رحب بالفكرة ومشى امام الرجلين بخطى سريعه ، في ذلك الممر الموصل الى الباب الخشبي الضخم والمرصوف من الإسمنت الأبيض واحجار البحر المتعددة الأشكال  التي جلبها السيد توفيق معه من شواطئ البحار التي كان يجوبها في اسفاره ...
طرق ابو ربيعٍ باب المنزل طرقات متلاحقه ، ممسكا بطرف الحلقة التي تتوسطه وهو ينادي على ام سعيد .. وفي قرارة نفسه يقول ارجوكي أخرجي بسرعه ...
خرجت ام سعيد متجهمة الوجه عابسه ، لافتعال شجار مع ابي ربيع ، فهي لم تعتد طرق الباب بهذه الطريقه منه ، لكن ابا ربيع لم يعطها الفرصة لذلك.. فقد تنحى عن الباب في اللحظة التي سمع صوت خطواتها المتسارعة من خلفه ...
تجهم وجه ام ربيع اكثر ، ووقفت فاغرة فاها .. فقد كانت تريد الصراخ فألُجمت  ، ووقفت متسمرة امام الباب ، لكنها ما لبثت ان تداركت انفاسها واستعادة عقلها الذي تغيب لبُرهه ... ثم قالت : تفضلو
ابتسم المفتش كمال ، وتوجه اليها بالسؤال ، هل السيد توفيق موجود ؟ ...
فقالت : لا لقد خرج منذ الأمس ولم يعد
- وهل من عادته الخروج والنوم خارج المنزل
- لا ... وقد كنت انوي ان لم يعد اليوم ايضا ان اتصل بأولاده ونبلغ الشرطة ..
- هل اعلمك اين سوف يذهب
- لا لم اعتد منه ان يقول اين يذهب فهو كتوم جداً ، لكنه كان دائما يعود بعد ساعتين او اربع ساعات من خروجه  ، ويطلب ان أعد له عشاءاً خفيفا حين يعود  .
بدأت مظاهر الخوف والقلق تظهر على وجه ام سعيدٍ ، وهي تضع يدها على صدرها و تتكلم بكلمات سريعة .. هل هناك شيء ؟ ...
تراجع المفتش كمال الى الخلف بعد ان أومأ لزميله الملازم أديب الذي اقتصرت مهته على الصمت والمراقبةِ بالخروج ، ثم طلب ان يتصل به السيد توفيق فور عودته ، محاولاً طمأنتها وهو يقول لا تقلقي سيدتي .. لكن عبثا كان يحاول .. فقد كان قلبها اصدق من محاولاته .
خرج المفتش كمال وزميله من المنزل وتركا خلفهما ابو ربيع منشده الفكر والدموع تتساقط من عيني أم سعيدٍ بلا سبب ، ودون ان ينطقا بكلمة دخلت ام سعيد المنزل واغلقت الباب خلفها ...


مضت ثلاثة ايام على غياب السيد توفيق ، وبدأ الذعر يصيب جميع من في المنزل ... ولم يأتي خبر عنه ...
كانت ام سعيد في هذه الأيام على اتصال بإبنه نصار، الأبن الثاني والأصغر للسيد توفيق ، وهو يعمل مهندس نفط في احدى الدول العربية ، وقد تزوج منذ سنة تقريباً بمرام ابنة عمه ، التي تربا معها منذ ان كان في السادسة من عمره بعد ان استشهد والدها في احدى المعارك الضارية مع العدو، وهي الآن حامل بالشهر الرابع ،
حاول السائق ابو ربع ان يذهب إلى كل الأماكن التي كان يوصل السيد توفيق إليها ليتقصي أي خبر عنه، الا انه كان يعود خالي الوفاض مكفهر الوجه ، ومنكس الرأس .
يزوران الوطن في كل اجازة سنوية ، فيقيمان في منزلهما الذي كان نصار امر ببنائه في حي يبعد عن حي والده مسافة ثلاث ساعات ، فقد اشترى الأرض بعد ان اشار عليه والده بشرائها ، وكما يقول كانت لا تفوت ، فموقعها استراتيجي جدا ومطلة على الشارع من جهتين ، وهو يتشاطر مع اخيه أجور العاملين في المنزل ، وفي معظم الأحيان كان يرسل لأبيه بعضا من المال تحسبا لأي طارئ ،
ورث عن ابيه سمرته وكل تفاصيل وجهه ،عينان لوزيتان تلمعان ذكاءاً ورموش سوداء طويلة ، دمث الأخلاق هادئٌ ، وعميق الفكرةِ بتأنِّي ...
قرر نصار وزوجته مرام أن يحجزا على أول طائرة عائدة للوطن ، فما عادت المتابعةُ من بعيد مجديه ،

مفلسٌ من حسبَ انه يستطيع حل جميع مشكلاته بمتابعته الحثيثة لها من بعيد ، ومعظم الناس صارت على هذه الشاكله .

 اما رائد فقد اتصلت به ام سعيد عدة مرات دون جدوى فقد كانت زوجته تقول انه غير موجود.
 رائد ، الإبن البكر للسيد توفيق ، سافر إلى الولايات المتحده الإمريكية لإتمام دراسته الجامعيه ، فتزوج احدى فتياتها ( بينولوبي ) ، والتي كانت البنت الوسطى لصاحب المنزل الذي كان مستأجراً غرفته عنده ،
 استقر في تلك البلاد البعيده بعد ان انجبت زوجته طفلان ، ولد وأسماه توفيق لكنه عُرِف باسم ( جوزيف ) وذلك أن زوجته لم يعجبها الإسم فأسمته هي ، وبنت وسُمِّيَت ياسمين  ،
ومنذ سفره للدراسه لم يزر الوطن ، إلا انه كان على اتصال دائم بوالده ، وملتزم معه ماديا فيضيف الى نصف الأجور مالاً يغطي احتياجات والده جميعها ، وقد كان السيد توفيق راض عنه تمام الرضى ،
أخذ من والده معظم صفاته كالحنان والقوة والعزيمه الا أنه تميز باستعجاله في قراراته ، ولهذا السبب كثُرت هي تلك الأخطاء التي وقع بها ، وورث عن امه عيناها الخضراوان و شعرها المنساب وبياض بشرتها الوردي ، وابتسامتها التي كان السيد توفيق يقول انها تفتح ابواب المستحيل .

يحلق الصقر في أعالي السماء مبتعدا أميالاً، يبحث عن طريدته مفضلا الأرانب البرية ، وحين يجدها ، يحملها عائدا الى صاحبه ليأكل من يده .

وصل نصار  و زوجته الى أرض الوطن في اليوم الرابع لإختفاء والده ، كان شديد العبوس كثير الصمت ، يظهر التماسك والقوة ، فهذه هي ستارته التي يخفي خلفها خوفه وذعره  منذ ان كان صغيراً ، وفي المطار طلب سيارة اجره كي توصله إلى منزل والده ، الا انه سرعان ما غير رأيه في الطريق و طلب من السائق ان يذهب به الى مركز الشرطة ، ويكمل مع زوجته طريقها كي يوصلها الى بيت والده ....
دخل نصار مركز الشرطة وبدأ المحقق بكتابة بلاغ الإختفاء ، وما أن ذكر نصار اسم والده السيد توفيق حتى توقف المحقق عن الكتابة لبرهه ، ثم اسأله بعضا من الأسئلة المعتادة وخرج طالبا ان ينتظره في غرفة الإنتظار قليلاً،

قاسية هي لحظات الإنتظار التي يغلفها ضباب كثيف ، إن وضعتَ اصبعك امامك فيه لم تره ، لكن يبقى خيط الأمل معلقاً بتيار هواء باردٍ يلف الإصبع كي يرشده الى الطريق .

اربع ساعات مرت دون ان يأتي احد ، وبدأ التعب يظهر جليا على نصار الذي لم يرتح بعدُ من عناءِ السفر ، لكنَّ عينيه لا تزالُ معلقةً على باب الغرفة مترقبةً ومتوجسة ،
أما زوجته مرام فقد وصلت الى منزل السيد توفيق ، وقفت امام باب المنزل الحديدي تنظر اليه ، قرعت الجرس ، ،ليخرج لها ابو ربيع مرحِّبا يحاول رسم ابتسامة قد كساها الشحوب ، يحمل الأمتعة متجها الى داخل المنزل كي يعلم ام سعيد.
وقفت بين أشجار المنزل تعلو وجهها علامات الدهشة ، خرجت الطبيعة صمتها ، صوت البلابل التي بنت اعشاشها بأمان فوق الأغصان ، والهواء الغربي المتخلل أوراق الأشجار التي ترفع اذرعها تتضرع الى الله حفيفاً لعودته ، بكاء يطعن خاصرة الأرض برمح الوجع ،





03‏/03‏/2012

صحراء



صحـــــراء




ليتني أعلم أين سينتهي بي المطاف ...
 ربما لما كنت توقفت ...
 وربما كنت أكملت قصتي ...
 عن فتاة ذهبت ولم تعد بعد ...
 طوال الوقت كانت كالبلهاء ...
 تحاول إقناع نفسها أنها بخير ...
 ولم تكن سوى معولٌ في صحراء قاحلة ...
 حسبت أنها ستزرُعها نخلاً ...
 ونسيت البذره ...

الصورة للرسام / Gary Benfield

في 290212