19‏/03‏/2012

حي السبعينيات الجزء الثاني






حي السبعينيات


الجزء الثاني





مشت مرام خلف ابي ربيع بخطاً متأرجحة ، فتتقدم خطوة وتتأخر خطوة ، وشيء ما كان يعيدها للخلف ،
تتلفت حولها اتراه تغير شيء هنا ؟ ...تلك الأرجوجةُ التي كنت أجلس عليها بجانب عمي حين كنت صغيره ، حتى يغلبني النعاسُ فأنام على فخِذه ، ويبقى هو صامتاً محدقاً في السماءِ الصافيةِ كقلبِه ،
ببرائةِ الطفولةِ سألتُه عن سببِ تحديقِة في السَّماء ، فنظر إليَّ وهو يبتسمُ بسعةِ الكونِ حناناً ، ثم قَّبل جبيني وقال :إنُظري يا صغيرتي الى تلك الغيمات هناك ...  هناك تجلسُ حبيبتي تُناظرُني ، وكلما رأتني متضايقاً تعباً أرسلت الي بعضاً من أنفاسِ عطرِها الذي يلُفُّني ، فيأخذُني كي أجالِسها قليلاً حتى يذهبَ عني الضيقُ والتعب ، وأغفو على صدرِها ،
رقصَ قلبي فرِحاً حينها ، ينشُدُ الأمَل ، ثم قُلت : وهل أبي أيضاً هناك ؟
ضحِك بتلك الَقهقهةِ التي لطالَما عشقتُها، فقد كانَت تُدغدغني كي أنفِجر ضاحة،
ثم قال: طبعاً ايتها النحلةُ الصغيرة ،
فقلتُ أين؟ ، كانت عينايَ محدقتانِ في السماء ،أُحاولُ مدَّ رقَبتي القصيرةِ أكثر ،تبحثُ عن ابي الذي غادرنِي شهيداً وأنا ابنةُ الربيع الخامِسِ من عمُري ، لم أرى شيئاً في بادئِ الأمر ، وتكرَّر سُؤالِي الشغوفِ له ... أين ؟ أين ؟ ... ثم انفجرتُ باكيةً أضربُه على صدرِه وأنا أقولُ لِماذا ترى خالتي وأنا لا أرى أبي ، ألا يريدُ رؤيتي ؟
كانت المرةُ الأولى التي أرى فيها عمي مغرورقة عيناهُ بالدمع ، وهو يحتضنُنُي  ، ثمَّ صمتَ قليلاً ومسَحَ دمعي المُتساقطِ وقال لي : ثقي بي وانظري الى تلك الغيمة - وأشارَ بشاهدهِ الأيمنِ إلى أكبِر غيمةٍ في السماء - إنه هناك فوقَ تلك البيضاءِ الكبيرة ، فأباكٍ شهيدٌ ولهُ اكبرُ غيمة ، لا تُزيحِي عينَيكِ عنهَا يا أجملَ نحلة ،
هدَأت أنفاسي وبدأتُ أطيلُ النظَر إليها ، نعم إن أبي هناك يلوِّح لي ... إنني أراه ،
لم أستطِع الحِراك ، بقيتُ أنظُرُ إلى أبي الذي أقبلَ إليَّ يحملني ، ويطوف بي بأرضٍ خضراءَ تكسُوها شقائقُ النُّعمانِ بلونِها الأحمرِ الجميل ، ويحد أطرافها أشجارُ الزيتونِ والنخيل ، نمت في إحدى زواياها شجرة سروٍ عاليه ، بنت الحمائم البريةُ فوقها أعشاشها وسكنت البلابل فروعها وطاف الهدهد حولها، ثم جلسنا تحتَ مِظلة ياسمين أبيضَ نقي مد من بعض فروعه ارجوحة ، وقال لي أبي: هذه الأرضُ لنا أنا وانتِ، سنأتي إليها كلما التقينا ،
في ذلك اليوم لعبتُ مع والدي كثيراً جداً ، ثم استيقظتُ احتضنُ عمي واقولُ له لعبتُ مع أبي يا عمي ...
ومنذُ ذلك اليومِ صارت جلسةُ الأرجوحةٍ إحدى طقوسِنا اليوميةِ أنا وعمي ،

كم أنا إبنةٌ جاحدة ، ليَتني لم أسافر مع نصار ، ليتني بقيتُ بجوارِك أجففُ قدميكَ كُلما توضأت ، كما كُنت تغسل وجهي ويداي مع نصار وتجففهما كُلَّما عُدنَا إلى المنِزلِ والطينُ يخضِّبنا من اللعبِ في الحديقة.
كم انا يتيمةٌ يا عمِّي الآن في غيابِك، فبعدَ استشهادِ والدي وزواجِ والدتي من رجلٍ رفضَ وجودي في محيطِ عائلتِه ، كُنتَ ليَ الأبَ والأُم .
 
طفولتنا هي الشيءُ الوحيد الذي يبقى متشبثاً في أعماقِنا، لا نستطيع انتزاعها حتى لو كانت مؤلمه
 
وضعت أمُّ سعيدٍ يدَها على كتفِ مرام مقاطعةً تأملاتِ افكارِها وشُرودِها  ، ثم احتَضَنتها بقوة ،
نظرت  إليها مرام ، راسمةً على وجهِها ابتسامةً متعبة صامتة، ثم دخلتا المنزل ، باتجاه حُجرتها التي كانت تنام فيها  ...
 
كلُّ ما في المنزلِ يناديه ( عُد ) ، عُكازُه الذي كان يتكئُ عليه ، الأريكة التي كان يجلسُ عليها ، تلفازُه ، مكتبته الزاخرة بأجمل وأندر الكتب والروايات ،والتي لطالما كان يفتخر بها ، جدران المنزل ، علبةُ السيجار وفُنجانُ قهوتِه ،
تجوَّلَت قليلا في أرجاءِ المنزل ، دخَلت غرفةَ السيد توفيق وهي تُحاولُ جمع كل أنفاسه من الغرفة في رئتيها ، فَتحت خِزانَة ملابسه ...
 - آه ( القُمباز ) مكويٌ ومعلق ، مهيءٌ كي يصير بين يدي عمي في اي لحظة يطلبه ، هذا الزي الذي لطالما قام عمي بارتدائه بفخرٍ في المناسباتِ الرسميةِ التي ذهب إليها كالأعراس والأعياد .. تحسَّسَّتُه بيَديها ، لا زالت تفوح منه رائحةُ عطرِه ،
وجهت عينيها نحو نافذة الغرفه ووقفت امامها ، كانت مطلة على بيت الجيران الذي يقع خلف المنزل ... قَفزَت أمامَ عينيها تِلك الطفلةُ التي كانت تركضُ الى ستارةِ هذه النافذةِ صباحاً فُتزيحها بفرحِ الطفولة ، كي تداعبَ أشعةُ االشمسِ وجههُ وتغريه بالنهوضِ من الفراش وبابتسامتِها المشرقةِ تقبلُ خده ....
هيا يا عمي قُم  ففنجانُ قهوتِك جاهز، حضَّرتهُ لك أم سعيد ، وكي نشربَ معك كأسَ الحليبِ الطازج
 - في كل صباح كانت تحمص ام سعيد حبوب البن الخضراء وتطحنها كي يشربها السيد توفيق جديده ،وتشتري الحليب الطازج الذي يحضره ابو رسمي بعد ان يحلب اغنامه في الفجر .
وكعادته ( السيد توفيق ) يقوم من الفراش متجها الى النافذة ، فيلقي تحية الصباحِ على الكون ، ويشهقُ شهيقًا طويلًا فيعبئُ فقاعاتِ رئتيهِ من نسماتِ الصباحٍ  العليل ، ثم يرفعُ يديِه فيتمتم ببعضِ الأدعيةِ الصباحيةِ وهي تردد خلفه ( آمين  (
في حياتِنا كثيرةٌ هي العاداتُ المكتسبة ، أو التي نبتدعُها نحنُ بأنفُسنا فنعتاد ارتيادَها دائما، لكنَّ اجملها على الإطلاق ما يكونُ لهُ مذاقٌ ورائحةٌ ممتعة ومميزة كمذاقِ البن الطازج  
توجهت الى غرفتها بخطواتٍ مُتثاقِلة وهي لا تكادُ ترى الطريق ، وألقت بجسدِها بهدوءٍ على السرير ، ثم بدأت بتفقدِ غرفتِها التي مرت سنة منذ آخرِ مرةٍ رأتها ، لكنَّها اليوم تختلف عن السنواتِ السابقة ، هناك شيء ما ينقُصُها ، بالرغم من انها كما هي منذ عشرين عاماً ، لايزالُ طلاؤُها كما هو، وحتى أثاثها ،  بل هي افضل مما كانت عليه ،
تحسست جنينَها الذي يقطُن في أحشائِها ، لقد اعتنى بها عمي جيداً ، فقد كان يقول دائماً غرفةُ نصار ومرام لأولادهما ،
أغمضت عينيها بعد أن تسللت دموعها المُحتَبسةُ في مقلتيها لتستقرَّ على الوسادة ،

دخل نصار غرفةَ المحققِ كمال بعد أن استدعاهُ وأجلسه على الكرسيِّ أمامه، ثم بادره بالكلام  .
-  اعتذر عن تأخيرِكَ كل هذه المُده فأنا أعلمُ أنك حضرتَ من السفرِ ويجبُ أن تستريح ، ولكن كان لدي بعض الأمور العالقة ووجب علي اتمامها ...

..... يتبع

*************
الصورة لـــ
 Michael & Inessa Garmash



بإسم :
 Hugs for Minnie

الثريا .... 




ليست هناك تعليقات: