24‏/03‏/2012

حي السبعينيات ... الجزء الثالث





حي السبعينيات

***
الجزءالثالث



دخل نصار غرفة المحقق كمال بعد ان استدعاه وأجلسه على الكرسي امامه ، ثم بادره بالكلام .
- اعتذر عن تأخيرك كل هذه المده فأنا اعلم انك حضرت من السفر ويجب ان تستريح ، ولكن كان لدي بعض الأمور العالقة ووجب علي اتمامها ،
- لا بأس يا حضرة المحقق ، لكن هل هناك خطب ما ،
- لا تقلق ، كنت اود الحديث معك عن اخيك رائد هل تعلم عنه اية اخبار .
- نعم لقد تحدثنا في بداية هذا الشهر وكان ذا معنويات مرتفعة جداً ، فقد قرر ان يعود للوطن ،
فسألتُه : مع زوجتك واولادك ؟
كان حزينا حين قال لا لوحدي ، زوجتي رفضت المجيء لكنه كان لا يزال لديه امل بإقناعها والعودة عن قرارها ، عفوا سيدي هل هناك شيء ، اقلقتني ..
- حسنٌ وماذا عن والدك السيد توفيق ، قرأت في البلاغ انك تطلب المساعدة في البحث عنه .
- نعم لقد خرج والدي منذ اسبوع تقريبا ولم يعد ، اتصلت بي مدبرةُ المنزلِ واخبرتني بذلك ،ولم استطع ان ابقى بعيداً عن الوطن ، وانا لا اعلم عن والدي شيء .
- هل اتصلت بأخيك رائد ؟
- نعم اتصلت كما واتصلت به مدبرة المنزل أيضا لكنه لم يجبها ، وكانت زوجته دائما تقول انه غير موجود .
سكت المفتش كمال قليلاً... وأطرق برأسِه إلى الأرض .. بدت عليه علامات الحيرة .. كيف سيبدأ بالحديث عن هذا الموضوع ؟ ...
لعل التزلج على حمم بركان قد انفجر تواًّ حد الإحترق ، أقل سوءاً من اتخاذ قرار بإعلام شخص ما بخبر مصيريٍّ سيء
رفع المحقق كمال رأسه ببطئ قائلاً.. يا سيد رائد والله لا أدري كيف أدخلُ بالموضوع .... انت تعلم ان العربي في بلاد الغرب سيبقى عربيا في نظرهم ... ومهما بلغ من مناصب ...
تجهم وجه نصار وتسمرت عيناه على المفتش كمال بعبوس شديد ، وبدأ قلبُه يسرع في دقاته وكأنه في سباق مراثوني ،
اكمل المفتشُ كمال حديثه قائلاً ... بعثت لنا المباحث الفيدراليه أن أخاك من ضمنِ المشتبهِ بهم في تفجيرٍ لإحدى الفنادق الأمريكية الكبرى ، والتي ذهب ضحيتُها العديدُ من الأشخاصِ الأبرياء ، ومن مختلف الجنسياتِ والديانات ... وهم يبحثون عنه لأنه اختفى منذ تلكَ الحادِثه .. وقد طلَبو مِنا ان نتعاونَ معهم في إيجادِه إن كان داخلَ البلاد ، او دخلَ إليها عبر طريقةٍ غيرِ شرعيه ،

ومن منطلقِ حرصنا على أمانةِ وسلامةِ مواطنينا ، وأمنِ وسلامة بلادِنا ، حاولنا البحثَ عنهُ والتدقيقَ في كلِّ من دخلَ إلى البلادِ عبر كل الطرق ، البرية والبحرية والجوية ولم نعثر على اية خيوطٍ له ، ولذلك أتيتُ مع زميلي المملازمِ أديب لسؤالِ السيدِ توفيقٍ عنه لكنه يكن موجوداً،

****

تسمر نصار على الكرسي في مكانه مشدوهاً ... دخلَ في حالةٍ من الهذيان ..عقلٌ فارغٌ تماماً... غيرُ مصدقٍ ما يحدُث ...محدقاً بالمحقق ... دون أن يرمِش ...
تياراتٌ من الهواءِ آتية من النافذةِ أدمَت مُقلتيه ... تمنى الموتَ في هذهِ اللَّحظه .. لكن " دائما هناك خيطٌ دقيق يفصلُ بين الحياةِ والموت نتشبث به ولا نستطيع اجتيازه بملئِ إرادتِنا "... تَشردَق بالحرف ... والماءُ لم يعُد يُجدي نفعاً لإسعافِه ...
بالرُّغم من وجهِ المحققِ المتجهمِ والجدي .. ومن عدمِ معرفتِه المسبقةِ بِه.. إلا أن نصَّار  كان يُمني نفسَه  أن تكون هذهِ الأخبارُ مداعبة من المحقق .. او حتى كميرا خفيه ...
بدأ نصار يتمتم ...
ما اسرعها سنواتِ العُمر .. تمضي بِومضة دون أن نُدرِك أنهَّا مضَت ... وفي السابقِ كُنا نراها بطيئة ونتسائل متى سوف نكبر ؟،
- كان لدى كل منا انا ورائد مزمار ، أحضرهُما والدِي من إحدى أسفارِه ، فقد كانَت كلُّ أشيائِنا مُتشابِهة ... وكُنا ندورُ به حولَ البيتِ نضحكُ ملأَ حناجِرنا ، ونعزفُ عليهما ضجيجاً يغري العصافيرَ والحمائِم بالتحليقِ ، والخروج من أعشاشِها كي تتراقصَ معناَ في فضائِها الواسع ، وكانت ام سعيد تبتسمُ وهي تنادِي علينا قائلةً : لقد ازعجتم الأرضَ فهربتِ الطيور ...
ولا نأبه لما تقول ونحن من يسعى للتحليق ...
في ذلِك الشتاءِ حُبِسنا خمسةَ أيامٍ لم تظهر فيها الشمسُ أبداً كي تداعِبنا ، وكانتِ السماءُ تَحتضنُها الغيومُ السوداء الماطره ،ونحن نجلسُ بالقربِ من النافذة طوال اليومِ ننتظرُ انقشاعها.. وابي يجلس على كرسيهِ  .. وفي فمهِ الغليون.. قارئاً للجريدة متيماً فيها فهو يضحكُ أحياناً ويبكي أحيانا ... ويغضب احياناً ... وإن ناظرنا ابتسم ... وفجأةً جاء ابو ربيعٍ كي يبلغ ابي عن وجودِ زوجةِ عمي في بيتِنا وكانت معها مرام ابنتُها ...
قطب والدي حاجبيه ثم اتجه لاستقبالِها، وأنا ورائد ركضنا خلفه نتلصصُ من خلفِ الباب ، كانت معها حقيبةُ سفرٍ كبيره .. في بادئ الأمر كنا  نتراهنُ أنَّها تحوِي الكثيرَ من الألعابِ والحلوى ..
انحنت زوجةُ عمي على ابنتِها مرام ثم همست لها ...فاتجَهت مرام نحو البابِ تركضُ بفرح.. وهرعناَ أنا ورائد مبتعيدينَ عن البابِ خوفَ ان يلمحنا أبي ..
خرجت مرام من الباب تنظرُ إلينا وهي تبتسم ... ثم بسرعة مدهشة قالت الا تريدونَ اللعب ؟ ( كانت مفعمةً بالحياة ، يشع من عينيها بريقُ يجعلُ القلبَ يبتسم ) .. نظر كل منا إلى الآخر .. لا جدوى من استراقِ النظرِ والتنصت فقد كان الصوت خافتا ..ومرام معنا .. عدنا الى الغرفةِ كي نلعب ..لقد كنت اكبر من مرام بسنة ورائد اكبر مني بسنتين ..لعبنا كثيرا .. لكننا لم نستطع مقاومة فضولنا في معرفة ماذا يوجد في الحقيبه ، فسألنا مرام عن ماهيتِه .. ضحكت وقالت لعبتي وملابسي .. فسألها رائد : هل ستسكنينَ عندنا ؟ ..
قالت :لا ، أمي قالت لي أنني سأقضي الإجازة عندكم ،لأنكم اولاد عمي وسوف أعود إليها ...
لم نهتم كثيراً لما سوف يحدث ، فالأطفال همُّهم الوحيد عند وجودِ طفلٍ جديد في البيت ، هو اظهارُ كل ألعابِهم ، وكل مواهبِهم التي لاتنتهي ، لإستِثمارِها في اللعب ، ومن أهمِّ هذه المواهبِ تعريفُ الضيفِ الطفلِ بكيفية إتلافِ شيءٍ ثمينٍ ومخبئٍ في البيت...
لم تمكُث أم مرام بزيارتها لبيتنا طويلا ، حتى أنَّها لم تشرب قهوتها وتركتها لا تزالُ ساخنة ...وفي أثناءِ خروجِها نادت على مرام واحتضنتها بقوة ثم قبلتها
وهمست بأذنِها : كوني ابنةً مطيعه ، ثمَّ خرجت والدموع تغسلُ وجهها الحزين ، لكن مرام لم تبكِ ، فقد كانت تتوقع أنَّها ستكونُ إجازة مسلية ، لا سيما أنها كانت تحبُّ أبي كثيراً ،
أمسك والدي بيدِها وأجلسَها على حِجرِه ، ثم قال لها : يا نحلتي الصغيرة ، منذُ أن وُلدتِ وأنتِ فردٌ من هذهِ العائِلة  ولكنك كنت بعيدة قليلاً ، أما ليوم فقدِ إجتمعَ شملُنا وهاهي الشمسُ تشاركُنا بفرحٍ فتبددُ بأشعتِها الغيوم ،
 توقَّف المطرُ وخرجنا كالمساجينِ الذينَ فُكَّ أسرُهم ، نركض متدافعين الى الحديقة ... ذهبت مرام الى ابي كي تجلس معه على الأرجوحة ، وأنا ورائد نتراقص بخفةِ بينوكيو ، ونعزفُ للعصافيرِ سمفونياتِنا المفضلةِ من مزاميرنا  ،
وصلنا إلى شجرةِ الكينا .. لقد بنت عليها الحمامةُ البريةُ عشاً ، وصوت زقزقة صغارها الجائعة تشاركُنا عزفنا ، وضعت مزماري على الأرض .. وتسلقتُ الشجرة .. ورائد يناديني بأعلا صوته ، (دع الصغار يكبرون بسلام ) ،
كنت أريدُ رؤيةَ عُشِّها ، لكنني ترنحت وكدت أقع على الأرض ،ركض الي اخي رائد بلا وعيٍ كي يلتقِطني ، وداس على مزماري فكسره نصفين ،
كلانا سمِع صوت كسرَ المزمار ، لكن رائد أسندني إلى الشجرةِ و ركضَ الى المزمار ، فأخذ مزمارهُ وقال مبتسماً : اوه لقد كسرت مزمارِي ..
قلت : هو مزماري ..
قـال :  لا لقد ركضت إليك وألقيتُ مزماري بجوارِ مزمارك فتدحرج أمامي ولم أنتبه فكسرتُه ،
لقد كان رائد حنونا جدا ..مأثاراً ،،،
يا سيدي المحقِّق .. رائد ليسَ لهُ علاقةٌ بما حدث .. رائد كان يبتعد عن بيوتِ النملِ حتى لا يدوسَها...انا متأكدٌ أن هُناك لبسٌ في هذا الموضوع .. أخي بريءٌ برائةَ الذئب من دم يوسف  ..
ابتسمَ المحققُ كمال وفي عينيهِ دمعةُ مشفقةً على هذا الشاب ،  ثم قال : يجب ان نتعاونَ كي نثبِت هذا ،
أطرقَ نصار بِرأسِه إلى الأرض ..
أبي أين أنت ؟ ، أحتاجُك ،أحتاجُ توجيهاتِك ، أينَ أنت ؟، هذا فوق ما أستطيع احتماله ..
يدٌ قويةٌ امتدت لكتفِ نصارِ تهُزُها و تربتُ علَيها ... يدٌ ليسَت بغريبةٍ أبداً ، لطالما كانت تربِتُ على كتِفِه ...لطالَما ضمَّتهُ واحتضنَتهُ ...
زادت ضرباتُ قلبِ نصار حتى أن جدرانَ غرفة المحقق صارت ترددُ صداها ،،
يا إلهي هل أحلُم ، هي تحملُ في البُنصُر خاتما فضياً مزيناً بحجر الزمرد ،، متردد في الإلتفات ،،خائف ،، انه هو ،،
هذا الخاتم الذي كان لعمي الشهيد وقد أهداه له والدي ،، رائحةُ التبغ ،، صوت انفاسِه ،،

أبي ،، اين كنت يا أبي ،،،


يتبع ...




الصور من رسومات الفنان Fabian Perez



هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

رائعة انت ..
ارجو منك المضي قدما يا صديقتي