13‏/03‏/2012

رواية حي السبعينيات الجزء الأول



حي السبعينيات


الجزء الأول


اعتاد عمال النظافة ان يجمعو النفايات في الساعة الرابعة فجراً من ذلك الحي ، والذي سمي بحي السبعينيات نسبة الى سنوات بنائه
(سبعينيات القرن العشرين ) ، يتميز بهدوئه التام ، عدا عن صوت نباح كلب او مواء قطة ، و بأرستقراطية ساكنيه الذين يعيشون في بيوت مبنية وسط ارض تحتلها الأشجار وبعضا من الأزهار التي تزين حواف المنازل ،
السيد توفيق ربان سفينة متقاعد ، هادئ كالنهر و بحر من الغموض، وأرض خضراء سهله ترى ما فيها على بعد الف ميل ،هو قطعة مخملية قد بطنت بالحرير ، مسالم بريء ومقاتل مغوار ، لديه من الحنان ما يفيض على كل الأزمان ، ونقاء كالماء الزلال ، ولديه من العذوبة ما يذيب الصخور الصلدة ، وكأنه خرج من احد روايات باولو كويلو أو املي برونتي
تراه دائماً معتمرا قبعته الايطاليه الصنع ، والتي اهدتها له ( أَبرِيانا ) بعد ان ضرب عاملاً في المرفأ كان يتحرش بها وهي تهم بالصعود على متن سفينته التي اسماها على اسم زوجته المتوفاه منذ ثلاثين عاماً ( سكر ) ،
وبيده اليسرى يمسك سيجاراً من النوع الكوبي ، بسيط اللباس ، وراق الهندام ، لا يعمد الى التباهي .. ويعمد اليه التباهي ...
ان ضحك سُمِعت قهقهاته من خلف جدران بيته السميكة... فإن مر في تلك اللحظة عابر ابتسم ، وكأنه دُغدِغ بتلك القهقهات ...
وهو احدى أثرياء ذلك الحي ، يعلو سقف بيته كرميد اخضر اللون كان قد طلب من المهندس وضعه ، فهو يعكس على روحه بعضا من هواء البحار التي كان يجوبها ، ولديه ولدان (رائد وهو الإبن الأكبر ) و ( نصار وهو الأصغر ) ، انجبتهما ( سكر ) زوجته التي توفيت وهي في المخاض حين انجبت  سعد الإبن الثالث ، والذي توفي فور ولادته ،



في هذه الجمعة بدأت الحياة في ذلك الحي تتغير ، فلم يعد الهدوء يسكن أروقة الطرقات... ولم يعد بيت السيد توفيق كما كان عليه في السابق ...
كانت الساعة الثانية عشرة ظهرا حين طرق رجلان باب البيت ، احدهما يلبس بدلة كحلية اللون ، يبدو على وجهه ملامح الهدوء والسكينة ، وتعلو جبهته علامات الذكاء والحنكة ، له شارب نحيل نوعا ما ، ويمشي بخطا ثابته
أما الآخر فكان يلبس بدلةً عسكرية  ،خشنٌ و قاسي الملامح ، يعقد حاجبيه كالرقم سبعه ، وتبدو عليه علامات الريبه ، يحاول تفقد كل ما هو حوله حتى الزهور ، وكأنه كلب بوليسي ذو انف شديد الحساسيه ، شارباه عريضان ، وحين يمشي يضرب الأرض بحذائه فكأنه يحدث زلزالاً ،
فتح لهما السائق ابو ربيع باب المنزل الحديدي الكبير ، فبادراه بالسؤال : هل السيد توفيق موجود ؟ .. قال ابو ربيع لا ، لقد خرج من المنزل منذ البارحة ولم يعد .... بدأت ركبتا ابي ربيع تطرقان ببعضهما ، وارتعدت اوصالة ، فقد كان يكره ان يمر من جانب شرطي فكيف والشرطي هو من اتى اليه !
تقدم الرجل ذي الزي المدني الى داخل المنزل والتفت الى ابي ربيع ثم قال مبتسماً... انا المحقق كمال من المباحث وهذا زميلي الملازم أديب ،
أومأ له ابو ربيع بالترحيب وقال تفضل يا سيدي ، كيف استطيع ان اخدمك ،
سأله  المفتش كمال : من في البيت ؟، بدأت علامات الخوف والإرتباك تظهر على ابي ربيع اكثر فأكثر ، وقال لا يوجد سوى ام سعيد  مدبرة المنزل والخادمة الصغيرةُ ريحانه ...
تقدم المفتش كمال من ابي ربيع وبكل أدب استأذنه برؤية ام سعيد ، لم يبدي ابي ربيع اي اعتراض ، بل على العكس ، رحب بالفكرة ومشى امام الرجلين بخطى سريعه ، في ذلك الممر الموصل الى الباب الخشبي الضخم والمرصوف من الإسمنت الأبيض واحجار البحر المتعددة الأشكال  التي جلبها السيد توفيق معه من شواطئ البحار التي كان يجوبها في اسفاره ...
طرق ابو ربيعٍ باب المنزل طرقات متلاحقه ، ممسكا بطرف الحلقة التي تتوسطه وهو ينادي على ام سعيد .. وفي قرارة نفسه يقول ارجوكي أخرجي بسرعه ...
خرجت ام سعيد متجهمة الوجه عابسه ، لافتعال شجار مع ابي ربيع ، فهي لم تعتد طرق الباب بهذه الطريقه منه ، لكن ابا ربيع لم يعطها الفرصة لذلك.. فقد تنحى عن الباب في اللحظة التي سمع صوت خطواتها المتسارعة من خلفه ...
تجهم وجه ام ربيع اكثر ، ووقفت فاغرة فاها .. فقد كانت تريد الصراخ فألُجمت  ، ووقفت متسمرة امام الباب ، لكنها ما لبثت ان تداركت انفاسها واستعادة عقلها الذي تغيب لبُرهه ... ثم قالت : تفضلو
ابتسم المفتش كمال ، وتوجه اليها بالسؤال ، هل السيد توفيق موجود ؟ ...
فقالت : لا لقد خرج منذ الأمس ولم يعد
- وهل من عادته الخروج والنوم خارج المنزل
- لا ... وقد كنت انوي ان لم يعد اليوم ايضا ان اتصل بأولاده ونبلغ الشرطة ..
- هل اعلمك اين سوف يذهب
- لا لم اعتد منه ان يقول اين يذهب فهو كتوم جداً ، لكنه كان دائما يعود بعد ساعتين او اربع ساعات من خروجه  ، ويطلب ان أعد له عشاءاً خفيفا حين يعود  .
بدأت مظاهر الخوف والقلق تظهر على وجه ام سعيدٍ ، وهي تضع يدها على صدرها و تتكلم بكلمات سريعة .. هل هناك شيء ؟ ...
تراجع المفتش كمال الى الخلف بعد ان أومأ لزميله الملازم أديب الذي اقتصرت مهته على الصمت والمراقبةِ بالخروج ، ثم طلب ان يتصل به السيد توفيق فور عودته ، محاولاً طمأنتها وهو يقول لا تقلقي سيدتي .. لكن عبثا كان يحاول .. فقد كان قلبها اصدق من محاولاته .
خرج المفتش كمال وزميله من المنزل وتركا خلفهما ابو ربيع منشده الفكر والدموع تتساقط من عيني أم سعيدٍ بلا سبب ، ودون ان ينطقا بكلمة دخلت ام سعيد المنزل واغلقت الباب خلفها ...


مضت ثلاثة ايام على غياب السيد توفيق ، وبدأ الذعر يصيب جميع من في المنزل ... ولم يأتي خبر عنه ...
كانت ام سعيد في هذه الأيام على اتصال بإبنه نصار، الأبن الثاني والأصغر للسيد توفيق ، وهو يعمل مهندس نفط في احدى الدول العربية ، وقد تزوج منذ سنة تقريباً بمرام ابنة عمه ، التي تربا معها منذ ان كان في السادسة من عمره بعد ان استشهد والدها في احدى المعارك الضارية مع العدو، وهي الآن حامل بالشهر الرابع ،
حاول السائق ابو ربع ان يذهب إلى كل الأماكن التي كان يوصل السيد توفيق إليها ليتقصي أي خبر عنه، الا انه كان يعود خالي الوفاض مكفهر الوجه ، ومنكس الرأس .
يزوران الوطن في كل اجازة سنوية ، فيقيمان في منزلهما الذي كان نصار امر ببنائه في حي يبعد عن حي والده مسافة ثلاث ساعات ، فقد اشترى الأرض بعد ان اشار عليه والده بشرائها ، وكما يقول كانت لا تفوت ، فموقعها استراتيجي جدا ومطلة على الشارع من جهتين ، وهو يتشاطر مع اخيه أجور العاملين في المنزل ، وفي معظم الأحيان كان يرسل لأبيه بعضا من المال تحسبا لأي طارئ ،
ورث عن ابيه سمرته وكل تفاصيل وجهه ،عينان لوزيتان تلمعان ذكاءاً ورموش سوداء طويلة ، دمث الأخلاق هادئٌ ، وعميق الفكرةِ بتأنِّي ...
قرر نصار وزوجته مرام أن يحجزا على أول طائرة عائدة للوطن ، فما عادت المتابعةُ من بعيد مجديه ،

مفلسٌ من حسبَ انه يستطيع حل جميع مشكلاته بمتابعته الحثيثة لها من بعيد ، ومعظم الناس صارت على هذه الشاكله .

 اما رائد فقد اتصلت به ام سعيد عدة مرات دون جدوى فقد كانت زوجته تقول انه غير موجود.
 رائد ، الإبن البكر للسيد توفيق ، سافر إلى الولايات المتحده الإمريكية لإتمام دراسته الجامعيه ، فتزوج احدى فتياتها ( بينولوبي ) ، والتي كانت البنت الوسطى لصاحب المنزل الذي كان مستأجراً غرفته عنده ،
 استقر في تلك البلاد البعيده بعد ان انجبت زوجته طفلان ، ولد وأسماه توفيق لكنه عُرِف باسم ( جوزيف ) وذلك أن زوجته لم يعجبها الإسم فأسمته هي ، وبنت وسُمِّيَت ياسمين  ،
ومنذ سفره للدراسه لم يزر الوطن ، إلا انه كان على اتصال دائم بوالده ، وملتزم معه ماديا فيضيف الى نصف الأجور مالاً يغطي احتياجات والده جميعها ، وقد كان السيد توفيق راض عنه تمام الرضى ،
أخذ من والده معظم صفاته كالحنان والقوة والعزيمه الا أنه تميز باستعجاله في قراراته ، ولهذا السبب كثُرت هي تلك الأخطاء التي وقع بها ، وورث عن امه عيناها الخضراوان و شعرها المنساب وبياض بشرتها الوردي ، وابتسامتها التي كان السيد توفيق يقول انها تفتح ابواب المستحيل .

يحلق الصقر في أعالي السماء مبتعدا أميالاً، يبحث عن طريدته مفضلا الأرانب البرية ، وحين يجدها ، يحملها عائدا الى صاحبه ليأكل من يده .

وصل نصار  و زوجته الى أرض الوطن في اليوم الرابع لإختفاء والده ، كان شديد العبوس كثير الصمت ، يظهر التماسك والقوة ، فهذه هي ستارته التي يخفي خلفها خوفه وذعره  منذ ان كان صغيراً ، وفي المطار طلب سيارة اجره كي توصله إلى منزل والده ، الا انه سرعان ما غير رأيه في الطريق و طلب من السائق ان يذهب به الى مركز الشرطة ، ويكمل مع زوجته طريقها كي يوصلها الى بيت والده ....
دخل نصار مركز الشرطة وبدأ المحقق بكتابة بلاغ الإختفاء ، وما أن ذكر نصار اسم والده السيد توفيق حتى توقف المحقق عن الكتابة لبرهه ، ثم اسأله بعضا من الأسئلة المعتادة وخرج طالبا ان ينتظره في غرفة الإنتظار قليلاً،

قاسية هي لحظات الإنتظار التي يغلفها ضباب كثيف ، إن وضعتَ اصبعك امامك فيه لم تره ، لكن يبقى خيط الأمل معلقاً بتيار هواء باردٍ يلف الإصبع كي يرشده الى الطريق .

اربع ساعات مرت دون ان يأتي احد ، وبدأ التعب يظهر جليا على نصار الذي لم يرتح بعدُ من عناءِ السفر ، لكنَّ عينيه لا تزالُ معلقةً على باب الغرفة مترقبةً ومتوجسة ،
أما زوجته مرام فقد وصلت الى منزل السيد توفيق ، وقفت امام باب المنزل الحديدي تنظر اليه ، قرعت الجرس ، ،ليخرج لها ابو ربيع مرحِّبا يحاول رسم ابتسامة قد كساها الشحوب ، يحمل الأمتعة متجها الى داخل المنزل كي يعلم ام سعيد.
وقفت بين أشجار المنزل تعلو وجهها علامات الدهشة ، خرجت الطبيعة صمتها ، صوت البلابل التي بنت اعشاشها بأمان فوق الأغصان ، والهواء الغربي المتخلل أوراق الأشجار التي ترفع اذرعها تتضرع الى الله حفيفاً لعودته ، بكاء يطعن خاصرة الأرض برمح الوجع ،





ليست هناك تعليقات: