10‏/04‏/2012

حي السبعينيات / الجزء الرابع





حي السبعينيات

الجزء الرابع

يدٌ قويةٌ إمتدت لكتفِ نصارِ تهُزُها و تربتُ علَيها ... يدٌ ليسَت بغريبةٍ أبداً ، لطالما كانت تربِتُ على كتِفِه ...لطالَما ضمَّتهُ واحتضنَتهُ ...
زادت ضرباتُ قلبِ نصار حتى أن جدرانَ غرفة المحقق صارت ترددُ صداها ،،
يا إلهي هل أحلُم ، هي تحملُ في البُنصُر خاتما فضياً مزيناً بحجر الزمرد ،، متردد في الإلتفات ،،خائف ،، انه هو ،،
هذا الخاتم الذي كان لعمي الشهيد وقد أهداه له والدي ،، رائحةُ التبغ ،، صوت انفاسِه ،،
أبي ،، اين كنت يا أبي ،،،
جذب السيد توفيق نصار إليه محتضنا اياه بقوة ، وضعا يده اليمنى على رأسه كما كان يضمه في صغره ،
اخذ نصار يردد لأبيه .. اين كنت يا ابي .. اين كنت .. انهم يطاردون رائد ،، وهو لم يفعل شيئا ً ، لم ينطق السيد توفيق ببنت شفه ، اكتفى بالنظر الى ولده وعيناه مغرورقتان بالدموع ، لكن نصار لم يستطع السكوت :
أبي قل لي ما ذا افعل يا أبي ، 


كانت الحروف تخرج من حلق نصار غارقةً بالدماء مع كل كلمه ، فصوته مخنوق لا يكاد يخرج ، يحاول ابتلاع ريقه كثيراً ، يرتجف وكأنه وضع في قالب من الثلح ، يبكي كطفل ولد حديثاً مصدوم بهذا العالم الذي خرج إليه .
أمسك السيد توفيق بكأس من الماء مومئا لنصار برأسه  بأن يشرب ، لكن ما ان مد نصار يده للكأس كي يشرب حتى ارتعشت يده فاندلق الماء على وجهه .
استيقظ نصار ليجد نفسه ممددا على أريكةٍ أمام مكتب المحقق كمال وفوق رأسه يقف الملازم اديب متجهم الوجه يحاول رسم العبوس على على ملامحه، إلا ان هذه الملامح اخترقتها مشاعر الشفقة على هذا الشاب اليافع الذي بدأت احجار قصره بالنزول واحداً تلو الآخر .
وتحت قدميه يقف طبيب المركز الأمني ، اسرع بالكلام ليقول إهدأ يا سيد نصار لقد وقعت وحملك الملازم اديب ووضعك هنا .
بدأ نصار يتلفت يمينا ويساراً يبحث بين وجوه الموجودين عن لمحة أمل تعيدة إلى حضن والده ، لكن دون جدوى ، حينها ايقن انه كان يهذي ، وان اباه كان في خياله فقط .
القى براسه الى ظهر الأريكة الإسفنجي ، يحاول استنشاق الهواء ، ولملمة ما بقي لديه من قوى بعد ان خارت كلها .
وضع المحقق كمال يده على ركبة نصار وهو يقول له : يجب ان نتعاون يا سيد نصار كي نستعيد والدك واخاك
-       اخي بريء يا سيدي المحقق .
-       يجب ان نجده ونثبت هذه البراءه ، ونعيد السيد توفيق الى بيته ، سأحصل على اذن بتفتيش منزلكم ، لأن هذا ما يجب البدئ به ، وانت يجب ان تعود لترتاح قليلاً .
توجه المحقق كمال إلى الملازم أديب وطلب منه ان يعيد نصار الى منزله ، فقد خاف عليه من ان يحدث له شيء في الطريق ، فقد ثقُل حملُه وخارت قواه .
وصل نصار الى البيت ، نزل من سيارة الملازم ووقف امام الباب يحاول رفع يده كي يطرقه ، ولا يزال يعلل النفس ببعض من أمل .
نظر إلى نهاية الشارع ... لا تزال عربة بائع الورد تقف هناك ، بتلك الأزهار التي كانت تزيد الحياة جمالاً .


لقد كنت في السنة الثانية في كلية الهندسه حين نجحت مرام والتحقت بجامعتي ، لكنها اختارت ان تدرس اللغات ، كم هي سعادتي حين ذاك ، وانا امني النفس بأننا سوف نذهب ونعود سوياً .
إنتهى أول فصل في الجامعه ، لم اكن سعيداً فيه فقد بدأت الشجارات تدب بيني وبين مرام ، تلك الفتاة الجميلة اليافعه ، والتي خرجت من عزلة المدارس حديثا ، وقد بدأ شباب الجامعة يحيكون المكائد للإيقاع بقلبها ،
في الفصل الثاني تعمدت وضع جدول المواد التي ادرسها متأخره او متقدمه عنها كثيراً ، وصرت اتعمد الخروج إما باكرا قبل استفاقتها او متأخراً بعد خروجها ، حتى لا اجبر أضطر لمرافقتها ، وارقبها في اوقات فراغي من خلف احدى جدران الجامعه دون ان تعلم خوفا من أن يحاول ايذائها احد أو هكذا كنت اقنع نفسي .
في تلك الجمعه استيقظت على وكز عصاة ابي في اسفل قدمي وهو يقول لي بنبع من حنانٍ في ابتسامته ( استيقظ )
قلت يا أبي اليوم الجمعه ، ولا يزال  الوقت مبكراً جداً .
عاد ابي لوكزي بعصاه ، ثم قال : قم ايها العاشق المتنكر.
قمت جالساً على السرير مشدوهاً ، عرفت ان والدي قد قرأني ( ومن غير الأب يحس بكل نبضة تنبِضُها قلوبُ اولاده )
وقف على نافذة غرفتي المطلة على الشارع وقال : تعال يا ولدي وانظر هناك الى الشارع .. وقل لي ماذا ترى ؟ ..
قمت من سريري كي اقف بجواره .. لا تزال عيناي شبه مغمضه ... لا أرى شيئا يا والدي ..
إغتاظ ابي من اجابتي المتغابية وضرب رأسي بأطراف اصابعه وهو يقول مبتسما ، دقق النظر يا ولد ..
-       ابي لا يوجد سوى عربة بائع الورد ( ابو هشام )
قهقه والدي ثم قال :
يا ولدي .. المرأة كما هي الزهرة .. تخرج من أرضها بلطف .. وتعيش بلطف ... وتموت بلطف ..
بسيطة جداً ... تسلب لبها بزهرة .. وتحيي روحها برشفة ماء ... تقيدها طوال عمرها بأرضك إن وفقت في اختيار سمادها ...
ناعمة كتيجانها ، تدمي قلبك بشوكها إن قسوت عليها .. وإن اهتممت بها ورعيتها جيدا .. أحاطتك طوال عمرك بالعطور والقبل ...
الزهر يا ولدي انواع والوان واشكال .. فالسوسن مثلا فيه الأبيض والأصفر والأسود .. ولكن لكل روح في هذا العالم زهرة تباريها جمالاً وتزيدها اكتمالاً ...
قاطعت ابي بفرح شغوف .. ابي ما كانت زهرة امي ...
-       لقد كانت زهرة النرجس ... لذلك زرعت لها حوض النرجس الكبير بجانب الأرجوحه ... فكانت تمضي فيه ايام غيابي عنها ...


-       ومرام ماهي زهرتها ..
-       انزل الى العربه .. واعرف ماهي زهرتها ..
 لم انتظر كي اغير ملابس نومي .. ركضت الى نهاية الشارع وتوقفت عند عربة ابي هشام - عربة بائع الورد - 
بقيت اتأمل الأزهار نصف ساعة كاملة ، اشم هذه .. وامسك هذه فأهيم بجمالها ... حتى ادهشتني السوسنة البيضاء .. بنعومتها ونقائها .. بتاجها الذي يأخذك في حلم الى ما فوق السحاب ..
اخذت الزهرة ووضعتها على باب غرفة مرام .. وطرقت الباب طرقات خفيفة وانطلقت الى غرفتي ... هكذا كانت اولى حكايتي مع مرام ...

يتبع ...



الثريا ...




ليست هناك تعليقات: