03‏/03‏/2011




في بيت جدي

*****




*****
كنت في السادسة من عمري عندما كان جدي يزرع اوراق التبغ بيديه في أرض الوطن، حيث الماء والهواء والدفء ، وكنت اراقبه بفرح كبير حين يجمعها ورقة ورقه ، ويضعها فوق بعضها بكل عناية ، ويفرمها على مهله، وكأنه يمسك بخيوط من ذهب ، وخطوته التالية كانت ان ينثرها على قطعة قماش من الحرير ، وكأن يبدو لي أنه يغري الشمس إليها ، فتتسابق بأشعتها كي تتخللها وتكسبها مذاقا اقوى .
لم أكن اجرؤ على الإقتراب منها ، فبالرغم من أن جدي كان شديد الهدوء ورائع بصمته ، الا انه كان يغضب غضبا شديداً إن اقترب احد اخوتي الصغار من التبغ ، فقد كان يصرخ عليهم بصوته الرخيم  ، وحين تجف هذه الأوراق ، كانت لها أكياس وعلبة وخزانة خاصة توضع بها .

 كنت اذهب إلى الدكان المجاور لبيت جدي لأشتري له دفتر أوراق الدخان ، وكان أبو سمير البائع  يبتسم لي دائماً ، ويعطيني حبة سكر بنكهة النعناع ويقول سلمي على جدك وأخبريه انني سوف آتي للسهر معه هذه الليلة .
كان لسهرات جدي طقوس غاية في الروعة  ، أهمها القهوة التي لم تكن تنزل عن المرجل الذي إمتلأ ( بالجفت ) ، والشاي بالعشبة أو كما تسمى  " بالزوفة " أو "الزعيتمان " ، ولم تكن تخلو السمرات من أوراق اللعب .

كان لدي حب فضول دائم لمراقبة السهرة عن بعد ، والإستمتاع بضحكات جدي وأبو سمير التي تدوي في ارجاء البيت و كانت جدتي ترافقهما بالضحك دون معرفة السبب، وتكتفي بالقول : إن جدك يضحك ! فأبتسم ، وأما أمي ، فكانت مع من يعدون العشاء وواجبات الضيافة في المطبخ ، وكنت أنا أدخل عليهن لسرقة أصابع البطاطس المقلية بزيت الزيتون أو حبة زيتون .. او ما يتوفرلدي مما خف حمله وسهل بلعه فتضحك امي على تصرفاتي وتقول : أي والله اتيت للمساعدة !

 خلال هذه السهرات كانت بنات خالي اللواتي من نفس عمري او ما يقاربه ، يأتين لكي يأخذنني للعب في بيتهن المجاور لبيت جدي ، ولكنني كنت ارفض بشده ! ، وافضل البقاء مع جدي في هذه الأمسية الرائعة ، فهي كأمسية في مسرح دار الأوبرا ، والمغني الوحيد كان جدي .

وكبرت ومرت الأيام ، ثم ابتعدنا عن الوطن و سافر ابي الى بلد خليجي للعمل، وكنا نقوم بزيارة الوطن في نهاية السنة ، ولكن وبعد الإنتفاضة الأولى أصبحت الزيارة صعبة علينا جدا .

توفي جدي الحبيب وكنت قد بلغت العشرين من عمري، وكان هذا الخبر الحزين ثقيل على روحي.. فأوقعني أرضاَ من شدة التأثر به ، إن جدي كان الحب والجذور لأرض وطني الذي كنت أحدث صديقاتي عنه بكل وفاء، ولم أمّل يوماً من إعادة سرد القصص لهن.
في ذلك اليوم المشئوم، اتصلت خالتي لتقول لأمي: يا أختاه.. لقد مات أبي وهو يردد ( الله يرضى عليكم ). كنت في نهاية الغرفة عندما سمعت نحيب خالتي، ولكن..العجب، أن أمي لم تبكِ! ورأيتها تجلس في صدر الغرفة تغني أغنية لطالما سمعتُها من جدتي حين كانت تنشدها ،  ولكنني أحسست بضيق شديد وسألت والدتي: ألا تبكين أباك؟
نَظرَت إليّ وفي عينيها بريق يلمع، يتوسل لها أن تبكي ، لكنها لم تنطق بحرف وبقيت في صمت الهدوء تغني .

مع مرور السنين، لا أزال أعيش مع ذكرى روايات جدي وهمساته الحنونة لنا، ولم تفتأ أمي تردد تلك الأغنيات على مسامع الروح ، ت
ُرى أي سر عن الوطن كان يخبئ جدي في قلبه ليجعلنا نغني دون أن نبكي؟..ربما كان سر الإيمان العميق بالعودة ، والذي ما زال يسكننا حتى اليوم.  
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الجفت ( باقي الزيتوت بعد عصره للزيت )


 
في 03/03/2011 الساعة 1:37 ظهراً


ليست هناك تعليقات: